التداخل اللغوي بين العربية واللغة الأم وأثره على اكتساب المهارات التواصلية
تمهيد
للغة دورٌ محوريٌّ في تشكيل الفكر البشري وتنظيم المعرفة، إذ تمثل اللغةُ الأمُّ الأساسَ الذي يُبنى عليه اكتساب الفرد للغاتٍ جديدة وفهمها بعمق.
وبالنسبة لمتعلمي العربية من غير الناطقين بها، تتحوّل اللغة الأم إلى أداةٍ معرفيةٍ واستراتيجيةٍ تمكّنهم من إدراك بنية اللغة الجديدة، والتفاعل معها بوعي، وإتقان مهارات التواصل بكفاءة.
فأثر التداخل بين العربية واللغة الأم يتجاوز المفردات والقواعد، ليشمل الإدراك والمعالجة الذهنية، ويؤثر في الفهم الثقافي والقدرة على التعبير بدقة، كما يشكّل هذا التداخل جسراً لفهم الثقافات المختلفة ويعزز القدرة على التعبير عن الأفكار بطريقةٍ متسقةٍ وواضحة.
سيساعدك هذا المقال على فهم كيف يمكن للغتك الأم أن تكون أداةً قويةً لتعلّم العربية، والتفاعل بفاعلية مع بيئتها الثقافية،
ويستعرض دورها في اكتساب العربية، ويحلّل التأثير العميق للتداخل اللغوي في المهارات التواصلية والإدراك اللغوي، مقدّماً رؤيةً متكاملةً لفهم العلاقة بين اللغتين وأثرها على تعلّم العربية.
مفهوم التداخل اللغوي
يُعرف التداخل اللغوي بأنه تأثير اللغة الأم في اللغة المستهدَفة، بحيث ينتقل أو يُستبدل عنصر لغوي (صوت، كلمة، تركيب) من لغة إلى أخرى، ويشمل هذا التأثير الأصوات، والمفردات، والبنى التركيبية، والدلالات، وقد يحدث التداخل من اللغة الأم إلى العربية، أو بالعكس، أو بالتزامن بين اللغتين.
ويتخذ هذا التداخل شكلين رئيسين: إيجابيّ يسهم في تسهيل اكتساب اللغة وفهم قواعدها ومفرداتها حين تتشابه البنى بين اللغتين، وسلبيّ يؤدي إلى أخطاءٍ لغوية أو لغةٍ هجينة نتيجة نقل خصائص اللغة الأم إلى العربية نقلاً غير دقيق.
ومن الأمثلة على التداخل اللغوي:
على المستوى الصوتي:
كاختلاف مخارج الأصوات، أو استبدال صوتٍ بآخر، أو حذف بعض الأصوات أو تخفيفها، إضافةً إلى استخدام أصواتٍ ألوفونية لا وجود لها في العربية الفصحى.
على المستوى المعجمي والدلالي:
كاشتراك المفردات بين العامية والفصحى مع اختلافٍ في المعنى أو في سياق الاستعمال، إلى جانب استعمال كلماتٍ فصيحة مهملة في الأدب ضمن اللهجات المحكية.
على المستوى التركيبي والصرفي:
مثل اختلاف بعض العمليات الصرفية كالاشتقاق، مع وجود بنى نحوية مشتركة أو متقاربة مثل صيغ التأنيث والضمائر وأنماط الجمل.
الدور المعرفي للغة الأم في اكتساب العربية
تمثل اللغة الأم ركناً أساسياً في بناء الوعي اللغوي، فهي الإطار الذي يُعين المتعلّم على إدراك العلاقات بين المفردات وفهم بنية القواعد في العربية.
ومن خلالها يتكوّن لديه نموذجٌ ذهنيٌّ يوجّه عملية الاستيعاب، فيتعرّف على تراكيب الجمل وأنماطها النحوية، ويدرك دلالات الأفعال والضمائر في سياقاتها المختلفة.
كما تُمكّنه اللغة الأم من ربط المفاهيم الجديدة بما ترسّخ في ذاكرته من معرفةٍ سابقة، مما يخفّف العبءَ الإدراكي ويُعمّق فهمه للغة العربية بوصفها نظاماً متكاملاً من المعاني والعلاقات.
التداخل اللغوي وأثره على الإدراك والتفكير
يترك التداخل بين اللغة الأم والعربية أثراً واضحاً في طريقة معالجة المتعلّم للمعلومات وبناء تفكيره اللغوي.
وتشير الدراسات إلى أن ثنائيّي اللغة يستخدمون استراتيجياتٍ معرفيةً أكثر تنظيماً وفاعليةً نتيجة خبرتهم المستمرة في التنقل بين نظامين لغويين مختلفين.
هذا النشاط الذهني المستمر يُنمّي مرونة الدماغ، ويقوّي القدرة على توجيه الانتباه، ويُسهم في حل المشكلات اللغوية بدقةٍ ووعي، كما يعزّز الوعي باللغة بوصفه مكوّناً معرفياً يرفع جودة التواصل ويجعل استخدام العربية أكثر اتساقاً ونضجاً.
الأثر الثقافي واللغوي للغة الأم
تحمل اللغة الأم في جوهرها ثقافة الإنسان وهويته ومشاعره المرتبطة بالانتماء والمعنى.
وبالنسبة لمتعلمي العربية من غير الناطقين بها، تُصبح اللغة الأم وسيطاً معرفياً لفهم الأبعاد الثقافية والاجتماعية للكلمات والتعابير العربية، بما في ذلك تراكيبها وأساليبها البلاغية.
إنّ هذا الفهم العميق للغة الأم يمكّن المتعلم من قراءة النصوص العربية بفهمٍ يتجاوز ظاهر الألفاظ، ويدرك الفروق الدقيقة بين المفردات، مما يعزّز قدرته على التواصل الفاعل والاندماج الطبيعي في البيئة اللغوية الجديدة.
دور اللغة الأم في تطوير المهارات التواصلية

تُسهم اللغة الأم في ترسيخ اكتساب مهارات الاستماع والتحدث والكتابة بالعربية، إذ تمنح المتعلّم قاعدةً معرفيةً متينةً يبني عليها فهمه للغة الجديدة.
ومن خلالها يستطيع التمييز بين الدلالات الدقيقة للمفردات، واستيعاب العلاقات النحوية بين الكلمات، وصياغة أفكاره بلغةٍ واضحةٍ ومتماسكة.
كما تُعينه على مراقبة أدائه اللغوي وتقييم تقدّمه، مما يُنمّي وعيه الذاتي وكفاءته التواصلية، ويعزّز ثقته أثناء التفاعل في المواقف اللغوية المتنوعة.
تأثير التداخل اللغوي على التطور المعرفي
تشير الأبحاث إلى أنّ التداخل بين اللغة الأم والعربية يُثري القدرات الإدراكية للمتعلّم ويعمّق أداءه الذهني، فإتقان أكثر من لغة يفتح أمام العقل آفاقاً أوسع للفهم والتحليل، إذ يطوّر المتعلّم مهارات التركيز والانتباه والذاكرة، ويغدو أكثر قدرةً على معالجة المعلومات المعقّدة وربط الأفكار والمفاهيم في منظومةٍ فكريةٍ متماسكة.
ومن خلال هذا التفاعل المستمر بين نظامين لغويين، يكتسب العقل مرونةً أكبر في التكيّف مع البيئات المتنوّعة، ويحتفظ بلياقته المعرفية مدةً أطول، مما يسهم في تأخير مظاهر التدهور العقلي المرتبط بالعمر، ويؤكد القيمة المعرفية المستدامة لاكتساب لغتين على الأقل في تطوير الذكاء اللغوي والإدراكي.
أخيراً
إنّ أثر اللغة الأم في تعلّم العربية يمتد إلى ما هو أبعد من حدود المفردات والقواعد، ليبلغ عمق الفكر والوعي، فهي لا تكتفي بأن تكون أداةً للتعلّم، بل تصبح وسيلةً لصقل التفكير اللغوي وتعزيز الإدراك الثقافي والفكري لدى المتعلّم، واستثمارها بوعي يفتح أمامه أفقاً أوسع للتمييز بين التفاصيل الدقيقة في التعبير، وفهم السياقات الثقافية للنصوص، وتطوير أدواتٍ معرفيةٍ تُمكّنه من التفاعل بفاعلية مع اللغة الجديدة.
ومن خلال هذا التوازن بين الإدراك اللغوي والثقافي، تتجلّى اللغة الأم شريكاً استراتيجياً في بناء مهاراتٍ تواصليةٍ متينة، وقوةً دافعة تمكّن المتعلّم من الإبحار بثقةٍ في رحاب اللغة العربية، والغوص في أعماق ثقافتها وفكرها بوعيٍ ونضجٍ وذائقةٍ لغويةٍ رفيعة.
الأصوات الألوفونية (Allophones) هي بدائل صوتية لنفس الفونيم (الوحدة الصوتية) لا تغير معنى الكلمة، وتنتج عن اختلاف الموقع أو البيئة الصوتية حولها، على سبيل المثال: يمكن أن تختلف طريقة نطق نفس الصوت في كلمات مختلفة حسب الأصوات التي تسبقه أو تليه.
تحرير: فريق علّمني العربية.
المراجع:
التفكير بين اللغة الأم واللغات المكتسبة
https://www.qafilah.com/articles/2021/thinking-between-the-mother-tongue-and-acquired-languages
التداخل اللغوي الإيجابي وتأثيره في تعليم وتعلم اللغة العربية