البنية الإدراكية في تعلّم اللغة العربية: كيف يفكّر المتعلّم بلغته الثانية؟
تمهيد
تعلّم لغة جديدة يتجاوز حفظ المفردات أو تقليد التراكيب الجاهزة، فهو رحلة معرفية متكاملة يشارك فيها المتعلّم بفعالية في بناء المعنى وصياغة أفكاره بلغته الثانية، فكل كلمة تُكتسب، وكل تركيب نحوي يُستوعب، يساهم في تكوين شبكة معرفية متماسكة تمكن المتعلّم من فهم العالم والتعبير عن أفكاره ومشاعره بعمق ووعي.
وفي سياق تعليم العربية للناطقين بغيرها، يبرز سؤال جوهري: كيف تنشأ هذه البنية الإدراكية؟ وكيف تتفاعل مع خبرات المتعلّم السابقة لتسهيل فهم اللغة واستثمارها في التفكير والتواصل؟ فالإجابة عن هذا السؤال تكشف عن العمق المعرفي للعملية التعليمية وتضع أساساً لفهم العلاقة بين الفكر واللغة في رحلة اكتساب العربية.
البنية الإدراكية للغة
تستند البنية الإدراكية إلى شبكة متكاملة من المعارف اللغوية والمعجمية والنحوية والمعرفية، تتشكل تدريجياً مع اكتساب الكلمات والهياكل اللغوية.
فتعلم كلمة جديدة لا يقتصر على حفظها صوتياً أو كتابياً، بل يشمل ربطها بالمعاني السابقة، واستخدامها في سياقات حقيقية، وتكوين صور ذهنية تساعد على إدراك العلاقات الدقيقة بين المفردات والأفكار.
وفق النظرية البنائية، اللغة تنبثق من التجربة المعرفية للمتعلّم، فالفهم اللغوي يتخطى حدود الكلمات نفسها، ليصبح وسيلة لاستكشاف الواقع وفهم العلاقات بين مفاهيمه المختلفة، لأنّ المعرفة السابقة تشكّل الأساس الذي تُبنى عليه المفردات والهياكل الجديدة، في عملية ديناميكية يمزج فيها الإدراك بالخبرة والممارسة.
ومن هنا يظهر الدور المحوري للخبرات السابقة في توجيه اكتساب اللغة واستيعابها بفعالية.
دور الخبرات السابقة في التعلم
يتفاعل كل متعلّم مع العربية وفق خبراته الإدراكية واللغوية السابقة، فالناطقون بلغات أخرى يمتلكون طرق تفكير ونماذج معرفية تشكّل رؤيتهم للعالم، وهذه الرؤية تؤثر مباشرة في استقبال اللغة الجديدة واستيعاب قواعدها.
على سبيل المثال: قد يختلف تركيب الجملة في العربية اختلافاً جذرياً عن لغته الأم، مما يستلزم بناء خريطة إدراكية جديدة تتوافق مع القواعد العربية، مع الاستفادة من خبراته السابقة لتفسير المعاني وفهم النصوص بعمق ووعي أكبر.
ومع إدراك أهمية هذه الخبرات، يصبح من الضروري اعتماد استراتيجيات عملية لبناء البنية الإدراكية.
استراتيجيات بناء البنية الإدراكية

الاستماع المكثف والموجه: إنّ التعرّض المستمر للغة العربية في سياقات طبيعية، سواء كانت مسموعة أو مقروءة، يشكّل الأساس في بناء شبكة المعاني وربط المفردات بالسياقات المناسبة.
الممارسة التفاعلية: استخدام اللغة في حوارات ومهام تواصلية وأنشطة تعليمية يعزز التفكير بالعربية مباشرة، بعيداً عن الترجمة من اللغة الأم.
الربط بالخبرات والمعرفة السابقة: ربط المفاهيم الجديدة بما يمتلكه المتعلّم من معرفة سابقة يسهل الفهم ويعمق الاستيعاب، ويجعل التعلم أكثر طبيعية وفعالية.
التمثيلات البصرية والمعرفية: الخرائط الذهنية والرسوم التوضيحية تساعد على تنظيم المعلومات وربطها بطريقة ذهنية واضحة، مما يسهل تذكرها واستخدامها في سياقات مختلفة.
إنّ تطبيق هذه الاستراتيجيات يمهد الطريق لمرحلة التفكير باللغة العربية نفسها، حيث تصبح اللغة أداة للفكر والتعبير.
التفكير باللغة العربية
مع تكوين البنية الإدراكية، يتحول تفكير المتعلّم تدريجياً ليكون بالعربية نفسها، بعيداً عن الاعتماد المستمر على الترجمة من لغته الأم،إنّ هذه المرحلة تمثل تحوّلاً معرفياً جوهرياً، إذ تصبح اللغة أداة للتفكير العميق، والتحليل الدقيق، والتعبير المتقن عن المشاعر والأفكار المعقدة، ويصبح المتعلّم قادراً على اتخاذ القرارات، وفهم السياقات المتعددة، والتفاعل مع المواقف المعقدة مباشرة بالعربية، مما يعزز استقلاليته اللغوية والفكرية.
وبذلك تتجاوز العربية دورها كمادة دراسية جامدة لتصبح أداة فاعلة في بناء المعرفة واستكشاف المعاني، وتشكّل إطاراً معرفياً متكاملاً يغذي الفكر، وينسج روابط بين المفردات والأفكار، ويفتح أفقاً رحباً لفهم العالم والتعبير عنه بعمق، وفي هذا السياق لا تبقى اللغة مجرد وسيلة تواصل، إنّما تصبح منظومة معرفية متكاملة تمنح المتعلّم القدرة على رؤية العالم من منظور جديد، وتطوير قدرة نقدية وتأملية متقدمة.
خاتمة
يشكّل تعلّم العربية للناطقين بغيرها مساراً معرفياً متكاملاً، حيث تُنسج كل مفردة وكل قاعدة داخل شبكة إدراكية متكاملة، ومن خلال هذه البنية يتمكن المتعلّم من استيعاب المعاني والتفاعل معها بعمق، فتتحول اللغة من وسيلة للتواصل إلى إطار شامل للتفكير والاستكشاف وفهم العالم من منظور جديد.
ومع ترسّخ هذه البنية، تتجاوز العربية كونها كلمات متتابعة لتصبح نسقاً معرفياً يشكّل الأفكار، ويغذي الإدراك، ويوسّع آفاق العقل، مانحاً المتعلّم القدرة على إدراك الواقع بعمق ووعي أوسع، مستثمراً اللغة كأداة لفهم المعاني واستكشافها بدقة وإدراك كامل، لتصبح العربية جسراً بين المعرفة والتفكير المستنير.
تحرير: فريق علّمني العربية.
المراجع:
نظريات اكتساب اللغة وتعلمها
https://kenanaonline.com/users/maiwagieh/posts/402215
النظرية البنائية وتطبيقاتها في تعليم وتعلم مهارات اللغة الثانية
https://search.shamaa.org/PDF/Articles/JOIjssp/IjsspVol9No1Y2021/ijssp_2021-v9-n1_082-090.pdf